لا
زالت نظرية التطور تثير الكثير من اللغط في مشارق الأرض و غربها، بالرغم من مرور قرابة
مئة خمسين سنة على صياغتها من طرف تشارلز داروين في كتابه " أصل الأنواع
" الذي أصدره سنة 1859 .
يجهل
الكثيرون بأن داروين قام بمجهوده العلمي إياه بإمكانيات بسيطة و اعتمادا على وسائل
بدائية إذا قارناها بالإمكانات الهائلة المتوفرة لدى علماء البيولوجيا في وقتنا الحالي
. ..
وسيصاب داروين بالدهشة لو كان بيننا اليوم لما آلت إليه الأفكار التي صاغها أول الأمر
بخصوص موضوع التطور . فالأدلة الضخمة التي وفرتها العلوم المختلفة مثل علم الحفريات,
علم الوراثة, علم الحيوان, علم الاحياء والعديد من المجالات الأخرى أثبتت صحة هذه النظرية
.
و
بهذا المعنى يمكن القول بأن نظرية التطور هي مجهود علمي عالمي يمكن لأي كان أن يدلو
فيه بدلوه عبر الاستزادة و التنقيح كما له الحق في الاستفادة من ثمراته.
إلا
أن البعض ، عن جهل في الكثير من الأحيان ، يقاوم النظرية على أساس أنها تقول أن أصل
الإنسان قرد . و الحال أن النظرة بالعين المجردة للكائنات الحية من طرف أي كان تظهر
بأن الإنسان يقترب كثيرا من معظم الحيوانات ، و خصوصا الثدييات.
و
بما أن الله حبانا بملكتي التفكير و الافتراض ، فإن داروين ، افترض بحس علمي لا خرافي
بأن بالإمكان أن تكون بعض الحيوانات من أبناء عمومة الإنسان لا أصله حيوان .
ترى
هل القول بأن خلق السماوات و الأرض في ستة أيام من طرف الخالق يعني بها أيامنا بساعاتها
و بدقائقها ؟ و هل يعني أن الإنسان خلقه الله من تراب أو من طين يقصد المعنى الذي نفهمه
نحن ؟ إن حكمته في كل ذلك لا يعلمها إلا هو ، وفهمنا لهذه الأمور يبقى قاصرا مهما أوتينا
من العلم .
ما
العيب إذن في الاجتهاد قدر الإمكان للنظر في الخلق قصد تفسيره للصالح العام ، ولا أدل
على ذلك مساهمة نظرية التطور في استحداث علم الجزيئات الجيني الذي قام بتطوير الكثير
من الأدوية المضادة للحشرات المعادية للإنسان و الفيروسات الضارة بالعباد و الزرع و
الحيوان .
وللإخبار
فإن الهيئة الأمريكية لتقدم العلوم المعروفة اختصارا ب AAAS و التي تضم 125 ألف عالم من كافة الجنسيات قد أصدرت بيانا في سنة 2006 تقر
فيه بأن نظرية التطور قد أصبحت حقيقة علمية ، مثلها مثل حقيقة دوران الأرض حول الشمس
. و هيأة AAAS
هي جمعية علمية عالمية لا تهدف الربح و تعمل على شكل فدرالي تنضوي
تحتها 275 جمعية علمية من كل العالم . وهي التي تصدر المجلة العلمية الشهيرة
" SCIENCE " .
و
للعلم أيضا فالدكتور عمرو شريف الذي أصدر الكثير من الكتب المناصرة للدين و المضادة
للإلحاد من أشهرها " رحلة عقل " قد قال في حوار مع إحدى القنوات الدينية
أن مفهوم التطور والانتخاب الطبيعي لا يمكن الاعتراض عليهما لأنهما من القضايا العلمية
الصارمة . و يزيد الدكتور بالقول : " كل كتب البيولوجيا تقر بمفهوم التطور و لا
مجال للاستشهاد بقول عالم أو عالمين للاعتراض على مفهوم التطور و بالتالي فسبيل العلم
أن تطرح النظرية على الأقران و النظراء أي على الجمعيات العلمية القوية ، على المجلات
العلمية القوية و على المؤتمرات العالمية القوية . إنها الأجهزة الوحيدة المخول لها
أن تقول كلمتها العلمية الفصل " .
أما
عماد محمد بابكر، الدكتور في الأمراض العقلية والنفسية، الذي يحمل الجنسية البريطانية،
ويشتغل بالدعوة إلى الدين الإسلامي ، و في حوار له مع الجريدة الالكترونية " هسبريس
" يجزم بأن " داروين لم يقل بأن أصل الإنسان قرد ، هذه اتهامات مغرضة من
رجال الدين المسيحي و نقلها عنهم المسلمون بكل جهل . الصحيح هو القول بأن كل الأحياء
لها أصل مشترك .. فالبشر و القردة انحدروا من سلف مشترك و لكن لم يتطور أحدهما للآخر
" .
فإذا
استطعنا إنشاء بعض العلاقة أو النسب بين نوعين مختلفين من الثدييات أو الرئيسيات أو
غيرها ، فهذا يعني أن لهما جد مشترك تحول ، بفعل التطور، إلى نوعين على الأقل . وبنفس
الطريقة التحليلية التطورية تمكنت النظرية مثلا ، من إقامة علاقة نسب بين الحمار البري
و الفرس ، و هذه العلاقة يمكن إسقاطها على جميع الكائنات الحية .
و
بهذا المعنى فلا يعتبر الحوت la
baleine من الأسماك و إنما من الثدييات لأنه يتوفر على جميع
مواصفات الثدييات التي من بينها التنفس بواسطة الرئة و إرضاع الصغار.و يمكن إعادة بناء
تاريخ هذا النوع استنادا لنظرية التطور على أساس أن الحوت كان يستوطن البر قبل آلاف
السنين.
في
نفس الاتجاه ، أقيمت تجربة شهيرة بجزيرة في البحر الأدرياتيكي حيث تركت هناك مجموعة
من السحالي مدة 36 سنة أي طيلة 30 جيلا ، وكانت النتيجة أنها أصبحت أكبر حجما و فكها
أكثر صلابة و العجيب أن نظامها الغذائي تحول من أكل الحشرات إلى الأعشاب مع ما أصاب
أمعاءها من تغيرات ساعدها على تطوير تغذيتها . يبين هذا الاكتشاف أن التطور ليس نظرية
فقط وإنما ظاهرة يمكن ملاحظتها و إقامة التجارب لمعرفة مدى صحتها .
إلى
جانب مجال التطور شغل داروين و كل علماء البيولوجيا الموضوع المتعلق بقلة الأفراد البالغين
لمرحلة النضج في معظم التجمعات الحيوانية من كل نوع بالمقارنة مع الخلايا الوليدة
. و مع ذلك فالقليل من الأفراد هم الذين يبلغون مرحلة التناسل . أي أن جزءا فقط من
هذه الفئة يتوالد ليعطينا جيلا مواليا . و بالتالي يتم انتخاب بعض الأفراد من نوع معين
للتناسل و لتأبيد هذا النوع ، و لكن فقط الأفراد الذين لم يتم إقصاؤهم بفعل الشروط
المحيطة المعيقة للتوالد . هذا الانتخاب هو ما يطلق عليه الانتخاب الطبيعي .
ختاما
يسود الاعتقاد بين بعض معارضي نظرية التطور أن داروين من أصل يهودي وللتصحيح فداروين
لم ينشأ في عائلة يهودية و إنما نشأ في أسرة مسيحية من الطائفة التوحيدية التي تنكر
الثالوث . و تعتبر هذه الطائفة أن المسيح رسول و ليس إلها كما يعتقد الثالوثيون . و
أظن أن معارضي نظرية التطور يجهلون أن اليهود من أشد أعداء النظرية .
و
من المفارقات التي قد تهم مؤيدي ومعارضي النظرية على السواء أن الكثير من العلماء و
الجامعات في أمريكا تؤيد نظرية التطور . فنسبة العلماء الداعمين للنظرية في الولايات
المتحدة الأمريكية تقدرب 99 في المئة . بينما العلماء الرافضون لها لا يتعدون 0.01
في المئة .
أما
جمهور الأمريكيين فيقبل النظرية بنسبة 40 في المئة . و هو رقم ضعيف بالمقارنة مع الأوروبيين
و الآسيويين الذين يؤيدونها بنسبة 80 في المئة .
وأخيرا،
تعتقد توريا بنازور أستاذة برنامج الماجستير بجامعة محمد الخامس و هي واحدة من أقدم
مؤسسات التعليم العالي بالمغرب ، أن معظم الطلاب يتمون تعليمهم الثانوي والجامعي دون
معرفة أي شيء عن داروين أو مصطلح " الانتخاب الطبيعي" . و تلاحظ الأستاذة
، بأسف ، أن نظرية التطور لا تدرس في المغرب الذي يعد البلد الإسلامي الأكثر تحررا
في شمال إفريقيا و الشرق الأوسط .
بوشعيب
لزرق
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق